التكنولوجيا والعلوم التطبيقية

مختبر تالبوت . علم ميكانيك الفشل

2014 لنسامح التصميم

هنري بيتروكسكي

مؤسسة الكويت للتقدم العلمي

التكنولوجيا والعلوم التطبيقية الهندسة

في ستينات القرن الماضي، عندما تجوّلت في مبنى مختبر تالبوت، كانت جدران ممرّاته تضمّ صوراً لمسميات وشخصيات تاريخية بارزة في الميكانيك والهيدروليك، أي ميكانيك الماء المتدفّق. لكن الصور لم تكن هي التي جذبت اهتمامي عندما وطأت قدمي ما كان، بنظري، مبنىً غير تقليدي. فقد كانت الردهات غير اعتيادية، حيث ضمّت مكاتب وصفوف على جانب واحد فقط. ففي ردهة الطابق الأول لم يحتوِ الجانب المقابل للمكاتب والصفوف على جدار بل كان يطلُّ على غرفة كبيرة للمكائن، ارتفعت مكائنها من السرداب حتى جملونات السقف الظاهرة، وفي الطابقين الثاني والثالث كان الحائط الجانبي من دون أبواب وفيه شبابيك مطلّة على فضاء داخلي كبير، وكأن الشبابيك قد وضعت لتمكّن المشرفين المارّين في المماشي الجانبية من متابعة ما يجري في موقع التهشيم الداخلي، وقد احتوى المبنى على أنصاف قاعات على ثلاثة جوانب لِما قد يوصف كرواق داخلي (Atrium) وكان الجانب الرابع مغلقاً بحائط خارجي يضم عدداً من الشبابيك المطلّة جنوباً، وقد جاء هذا الترتيب قبل فترة طويلة من انتشار هذه السمة المعمارية في رواقات الفنادق المركزية، وفضاء مختبر تالبوت الكبير فلم يحتوِ على نافورات وزخارف وشجر، بل احتوى مكائن ثقيلة لاختبار أجزاء فولاذية وكونكريتية بأحجامها الحقيقية، ومن الطبيعي أن تنقل هذه الأجزاء داخل وخارج المكائن في الطابق الأسفل، وتستخدم لهذا الغرض رافعة رأسية ضخمة. ففضاء المختبر هو عبارة عن خندق لمسار الرافعة الكبير (Massive Crane Bay)، وهي التسمية التي نستخدمها للإشارة إليه.

بعد وقت قصير من إكمال مختبر تالبوت، تم تركيب ماكنة اختبار عمومية ذات سعة 3 مليون باوند، في سرداب المبنى من قبل ساوث وارك – إميري (Southwark-Emery) بالتعاون مع بالدوين–ساوث وارك كوربورايشن (Baldwin-Southwark Corporation) وشركة أ. ه. إميري (A.H. Emery)، وكما هي الحال مع جميع الشركات الاستثمارية، هناك قصة تروي إنشاء شركة مكائن الاختبار هذه. والقصة، باختصار، أن شركة بالدوين لوكوموتف ووركس (Baldwin Locomotive Works) التى أسست في فيلادلفيا عام 1831 قامت بتصميم وتطوير مكائن لاختبار –  حتى – فشل بعض الأجزاء الكبيرة المكونة للقاطرات البخارية، وبمرور الوقت عملت شركة بالدوين–ساوث وارك  (Baldwin-Southwark مع مبتكر اختبار المواد إميري (Emery) لصنع مكائن الاختبار خارج أعمال القاطرات.

لقد هيمنت ماكنة ساوث وارك – إميري (Southwark–Emery) – التي نصبت في مختبر تالبوت – على جميع الفضاء الداخلي للمختبر بنفس الطريقة التي هيمنت فيها أعمدة كورنثيان (Corinthian) على مبنى التقاعد (Pension Building) في واشنطن العاصمة، والتي تضمّ حالياً مبنى المتحف الوطني (National Building Museum). في أوربانا، اعتلت الماكنة الضخمة كل شيء، وكأنها شارة مميزة لمعرض صناعي ارتفاعه بارتفاع أربعة طوابق، وتظهر الماكنة من بعض الزوايا وكأنها تلامس جملونات السقف الظاهرة التي تساند سقف المختبر المدبّب قليلاً. تجثم ماكنة الاختبار العملاقة على الأرض معظم الوقت، كهيكل ساكن مرتفع وضخم وثابت، دُهنت أجزاؤه بألوان زاهية صفراء وحمراء ولون السفن الحربية الرمادي، وتدلّ الألوان، على التوالي، على الفك العملاق الذي من خلاله تُسلّط القوة، ثم على قاعدة المصعد التي يستخدمها الفنيّون للصعود والنزول، وعلى إطار الهيكل الساند لكل شيء، وعندما يكون هناك نشاط ما على الماكنة يظهر الفنيّون وكأنهم يقومون بتلبية متطلباتها، وليس ضبطها وتنظيمها، للقيام بالمهمة المطلوبة، وهي تكسير الأشياء الكبيرة التي لا يمكن تكسيرها بوسائل مختبرية أخرى، وبطبيعة الحال، على المهندسين معرفة متانة الأجزاء الهيكلية المتخصّصة الداخلة في تصميم وبناء الأشياء، وعادة ما يقومون بذلك نظرياً اعتماداً على متانة نماذج المواد، ولكن في الحالات المعقّدة في الشكل، أو في حالات الأنسجة المبتكرة، فالطريقة الوحيدة للتأكّد من المتانة هو القيام باختبار مادي [عملي] حتى الفشل، وليومنا هذا، حيث إن النمذجة الحاسوبية قد أصبحت منتشرة الاستخدام، فما زال هناك حاجة للقيام باختبارات حقيقية أوسع لإثبات ومعايرة نماذج معقدة لأجزاء معقدة.

الميزة الطاغية لمختبر تالبوت، وكذلك، كامتداد لإدارة تام نفسها، هي عبارة عن تذكير هائل للدور المركزي الذي يلعبه الفشل في الاختصاص. تنتصب ماكنة الاختبار الكبرى، رمزياً وفعلياً، وهي جاهزة لتسليط قوى فعلية لتُثبت أو تدحض التنبؤات النظرية للمتانة، وهي الحكم النهائي بين النظريات المتنافسة والتنبؤات المتعارضة، والسِّيَرُ الذاتية المضافة لصور العلماء والمهندسين المرموقين – جميعهم ميكانيكيون – تطلُّ على مسار الرافعة، مؤكّدةً إنجازاتهم الناجحة، لكن هذا النصب الثابت المترصّد الذي بالإمكان تحويله إلى شيء شبه – ثابت، متحرّك موجود دائماً للقول الفصل كلما اختلف المرموقون وأشباههم. الفشل هو المثال المناقض غير القابل للتحويل للنجاح المفترض، وهو ضمنياً في قلب كل ما يمثّله تام. لم يصبح ذلك واضحاً لي إلا بعد سنوات من مغادرتي أوربانا مرتدياً معطفاً من جلد الغنم (Sheepskin)، كالذئب، متنقّلاً غير مكتشَف بين قطيع من الغنم. المنظّرون، كما هو حالي، يحلمون بالانقضاض من خلال معادلة تُغني عن جميع الاختبارات التي يقوم بها المختبريون السُذّج؛ وقد تحمَّلَنا المختبريون، نحن المتطفّلون، الذين كانوا على قناعة بأن تحرّياتهم للمواد في ميدان العمل سينتج  حالات من الفشل لا يمكن التنبؤ بها من قِبلنا، أو من غيرنا، وكما لاحظ طالب في العلوم والتكنولوجيا: فإن الفهم العلمي لم يتقدّم من خلال البحث عن الحقيقة، بل تقدّم من خلال البحث عن الأخطاء، وقد حاكى هذه الفكرة نفسها، مع بعض التعديل، أحدُ المدراء التنفيذيين لإحدى الشركات عندما كان يُلقي كلمته حول موضوع الابتكار التكنولوجي: "الفهم يأتي من الفشل؛ والنجاح يأتي من فهم الفشل، والتحرّك من خلال معرفته"، وهو صدىً لمثل صيني قديم يقول "الفشل هو أم النجاح".

تستخدم النماذج المصغّرة (Scale–Models) عادة لاختبارات الفشل في الهندسة، ولكن في حالات معيّنة، يكون الاختبار بالحجم الكامل هو الأسلوب الحاسم الوحيد. من الصعب إغفال ما يتمّ التحضير له عند اختبار شيء كبير في مسار الرافعة، ولكن ليس من السهل معرفة ذلك دائماً من مجرد النظر لمعرفة إن كان الجانب السفلي من الأفكاك العملاقة، التي تتحرّك ببطء شديد، تقوم بتفتيت عيّنة أو أنها تتهيأُ لذلك. لتحذير العاملين في مختبر تالبوت من أن شيئاً ما قد يتهشّم – مُطلِقاً كمية كبيرة من الطاقة على شكل صوت متفجرّات يصحبه تراجع للماكنة الضخمة ليهتز إثر ذلك المبنى بأكمله – استخدم جرس منبه لينطلق عندما يقترب الاختبار من نقطة الانكسار. ويتمحور عمل تام على اختبار – حتى – الفشل، لكن معظم طلاب الدراسات النظرية العليا يصمّون آذانهم تحاشياً للصوت، بينما يقوم طلاب العلوم التطبيقية في الطابق الثالث، حيث توجد أجهزة صغيره نسبياً، بالنظر إلى الماكنة الكبيرة بازدراء.

تستعمل [الماكنة] العملاقة أحياناً لتفتيت أشياء أصغر منها، على الرغم من عدم كون كل شيء تفتته صغيراً، وهذه المواد التي حُكم عليها أن تُدمّر، كما تدمّر علبة فارغة من الألمينوم تحت القدم، وضعت بين أسطوانة الماكنة المتحرّكة وأرضية السرداب الصلبة، ومن بين الاستخدامات الأكثر حدوثاً في استعمال الماكنة العملاقة بهذه الطريقة هو اختبار متانة أسطوانات كونكريتية كبيرة، وعيّنات الأسطوانات موضوع قياسي في اختبار الكونكريت لسهولة سكب الإسمنت الرطب داخل قالب أسطواني الشكل، يُترك لفترة مناسبة كي يعالج (ويُقترح أيضاً لأعمدة الهياكل، إحدى أهم التطبيقات للمادة). فمن خلال تهشيم الأسطوانة في ماكنة الاختبار، حتى الفشل، يستطيع المهندسون تقدير متانة الأسطوانة، وبالتالي المادة المكوّنة لها، وفي الخلطات الحديثة للكونكريت تترواح المتانة القصوى بين 2500 و10000 باوند لكل إنش مربع أو أكثر، اعتماداً على المكوّنات ونسبها، وعمر العيّنة، وللمشاريع الإنشائية العامة، كبنايات الشقق السكنية أو مواقف السيارات، فإن أسطوانة اختبار ذات حجم قياسي قطرها 6 إنشات وارتفاعها 12 إنشاً، هي أكبر قليلاً (وبوزن يبلغ 30 باونداً هي أثقل بكثير) من علبة عصير الطماطم، والقوة المطلوبة لتحطيم الأسطوانة تترواح بين 70.000 إلى حوالي 300.000 باوند، ويمكن القيام بذلك بواسطة ماكنة صغيرة يمكن احتواؤها في غرفة مختبر صغيرة. تحضّر الأسطوانات بملئها بإسمنت من نفس وجبة الإسمنت الذي سيوضع في الهيكل تحت الإنشاء، وتخزّن الأسطوانات تحت ظروف مسيطرٍ عليها ويتم اختبارها على فترات زمنية لمراقبة متانة الكونكريت وهو يتقادم في الهيكل الفعلي.

 

[KSAGRelatedArticles] [ASPDRelatedArticles]

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى